23 Jul
23Jul



إنني لا أكتب لأولئك الذين كذبوا عند أول جلسة لهم في المحكمة ، بحثا عن لقمة العيش بأي طريق كانت.إنني أكتب للذين اتخذوا هذا الطريق ترقيا في درجات الإيمان ، وسلما إلى عميق الإحسان ، وأرادوا أن يجعلهم الله وسائل لمقاصد شريعته ، ومؤمنين بعدالته. 

أنت تعلم يا موفق أن العدالة والتقرب إلى الله بتطبيقها ، ليست مجرد فطرة أولية في نفس الإنسان ، وإنما درجة متقدمة يصل لها الذين آمنوا بالله ، وفهموا مراده ، واستعدت عقولهم لفهم الحكمة ، ونفوسهم للهدى .كل ما هو سليم في هذا الكون ، فإنه يميل للعدالة ، ميول النخلة للشمس. ميول رغبة واحتياج وتعبد لله ؛ بغض النظر عن الشرور التي تصيب النفوس ، فتجعلها تجهل مواطن الحق ، وتعمى عن رايات العدالة .وإذا عرفنا أن العدالة مرتبطة بالإيمان أكثر من ارتباطها بالمادة ، وأنها لازمة للتعبد أكثر من أن تكون لازمة لتسيير العالم. وأنها السبيل أصلا لعمارة الأرض والحضارة فيها. إذا عرفت ذلك أيقنت أن فقهها يتطلب فهما للسبيل الذي يؤدي إليها .وإن من التوفيق بهذا الباب أن تكون قادرا على ربط المعاني بالمباني ، فإن كل لفظ يقوله إنسان له معنى في داخله ، يعبر فيه عن إرادته ومقصده . فإذا قلت "واحد" فأنت تعبر من حيث الأصل عن شيء غير منقسم و لا جزء له . كما أنك إذا قلت "اثنان" فأنت تريد بداية العدد ، ومضاعفة الواحد. ويعرف السامع والقارئ من ألفاظك معان يفهمها ؛ على ما استقر عرف البشرية عليه.واعلم أن التعبير إما أن يكون حقيقة وإما أن يكون مجازا، فإنك تقول "واحد" وتريد الوحدة ، كما أنك تقول أبيض وتريد البياض؛ فهذا المجاز.كقول بعض العلماء "أن الخطأ الشائع، خير من الصواب المهجور" ولم يريدوا أن تفهم ذلك على ظاهره، وإنما قالوا ذلك مجازا ليعبروا أنه بحسب تغير الزمان والمكان قد يكون ما تراه صوابا وحقيقة في قواعدك، هو خطأ عند الجماعة التي تكون فيها، أو أنهم قد يفهمون فهما مغايرا لقصدك، فلا تتوافق الأفهام ولا تلتقي الإرادات حينئذ؛ فقالوا أن اختيارك للخطأ الشائع أسلم وأخير ، وذلك أن العقول التي هي وعاء المعاني قد استقرت على نحو هذا الفهم. ولكن هذا القول على ظاهره غير مسلّم، فإن الحق هو أن تختار الصواب وإن كان مهجورا ثم تستدرك عليه بما يوافق أفهام أهل مِصرك وعصرك.وإن مما يساعد على أن توافق بين معانيك ومبانيك، أن تدرك أن المباني هي الألفاظ التي هي الأسماء، وأن المعاني هي المسميات. وأن أعم لفظ نطقه عربي هو "الشيء" وله حسب السياق عموم معان غاية في اللانهاية.ومن آكد ما يتوجب عليك فهمه لإدراك العدالة، هو أن تعرف الحساب وهو جمع العدد وتفريقه وتفهم الأرقام ومعانيها وعملها ؛ لأنها ترتب في ذهنك المنطق ، وتساعدك على ترتيب شؤون العدالة، فالعدالة مرتبطة بالمنطق. وهو ضروري لحسم الغامض من الظروف والمشتبه من الحالات.ولذلك أبواب ومشارب، فلتأخذ ما يعينك على الوصول والفقه.ثم إنك تعلم أهمية أن يكون مثلك على علم بالهندسة ، ولا يطلب منك أن تتقنها كلها فهذا مجال المهندس، ولكن الذي ينبغي لك معرفته عموم هذا العلم ليسهل عليك اختيار ما هو عدالة بهذا العالم، فتختاره وتقرره وتدافع عنه وتقضي به. فالعمر قصير، والصنائع كثيرة، ولهذا تجد في كل بلد أناس يعاون بعضهم بعضا. ولكن الذي مثلك ؛ يكون على معرفة عامة بمختلف الصنائع الهامة بهذا العالم، ليسلك بها من عالم المحسوسات إلى داخل نفسه فيفهم موازين العدالة، ومن مزايا هذا العلم يا موفق؛ أنه يدخل في الصنائع كلها.والهندسة أيها الموفق معرفةُ المقادير والأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ومبدأ هذا العلم من النقطة التي هي طرف الخط؛ أي نهايته.ثم لا يفوتك بعد ذلك النظر في علم النجوم، وهو كما تعرف يخص الذين ترقوا في مراتب العلم بشرع ربهم، والتفكر في عظيم خلقه. وهو على ثلاثة أقسام أولها علم الهيئة ويشمل الأفلاك وتركيبها والكواكب وكميتها والبروج وأقسامها وأبعادها وما يتبع ذلك. وثانيها علم التقاويم ويشمل استخراج التواريخ وما يلحق به. وثالثها علم الأحكام وهذا الثالث لا يضرك الجهل به إلا أن تعلم منه طرفا به تكون على دراية بهذا الفن، وذلك بعد أن تتحصن باللازم من العلم بالشريعة.وجدير بمثلك أن يتعرف على هذه الأرض التي نحن فيها وجغرافيتها فيدرك أقاليمها ودولها وأيامها، وينظر في البشر الذين يعيشون فيها، ويفهم بداية الدول وغايتها ومنتهاها ، وكيف يكون ذلك.ومما يعينك على تحرير الأمور لتدرك الواقع ، لأنك لا تصل لأن تختار ما هو عدالة إلا بعد وضوح الحال ؛ مما يعينك أن تعرف؛ إجابة أسئلة مفاتيحها ما أسرده لك ( هل هو؟ ما هو؟ كم هو؟ كيف هو؟ أي شيء هو؟ أين هو؟ متى هو؟ لم هو؟ من هو ) . وبحسب الموضوع يتشكل السؤال .ثم أجلك عن توضيح غاية أنواع العلوم، ولكن في التذكير بطرف ذلك نفع، فإنك تعرف أن لكل علم غاية ومنافع ، وأنك يا موفق تعرف من العلوم الدنيوية ما يكون جسرا للعلوم السماوية، فإن هذه الأجسام التي نحسها بهذا الوجود، إنما هي سبل للوصول إلى الله والدار الآخرة. وأنت ترى هذا الوجود مثنوي بالطبع. فتأمل هذا الإنسان الذي هو جسد وروح ، وتفكر فيما تنادي به الروح نحو الله والدار الآخرة، وما ينادي به الجسد نحو العالم الأرضي. وعلى ذلك فانظر في الحياة والممات والعلم والجهل والنوم واليقظة،إلخ.. فإذا نظرت في ذلك تبين لك أن الإنسان بمجمله يؤدي أعمالا أصلها إما نابع من جسده كالنوم والممات ، وإما نابعة من نفسه كالحياة والنطق واليقظة. واعرف أن الإنسان لا يغلب جانب الجسد على النفس إلا لسببين هما الظلم والجهل ، وهما ضد العدالة والعلم. وإنما يشرق الإنسان بأمر فتأمله؛ فإننا إذا قلنا الجهل هو الأساس الثاني للشر فإن ضده وهو العلم هو الداحض له وهو المنير لظلامه، أما الأساس الأول للشر وهو الظلم فإن العدالة ابتداء لا تكون الداحضة له المنيرة لظلامه؛ إنما العلم . فالعلم يا موفق أساس كل خير ، وبه يدحض كل شر، وبذلك نعلم أن العدالة إنما تكون بالعلم، والعلم لا يكون إلا بعد التعليم والتعلم ، ولذا فإن الموفق يربأ بنفسه أن يختار ما يراه عدالة من هواه بلا برهان واضح صحيح، لأنه لن يوفق في الاختيار إلا بعد أن يوفق في العلم . وبتفاضل الناس في العلم يكون تفاضلهم في العدالة. والعلم صورة المعلوم في نفس العالم ، فتكون المعاني التي هي روح الألفاظ ، فإذا خرجت مركبة من جسد وروح ، وانتقلت صناعة إلى العالم متوافقة متلائمة كانت نافعة إذا كانت صحيحة. وجدير أن تعلم يا موفق أن المعاني كلها داخلة ضمن عشرة ألفاظ هي ( الجوهر مثل إنسان. والكم مثل ثلاثة أمتار. والكيف مثل أبيض. والمضاف مثل نصف. والأين مثل السوق. ومتى مثل أمس. والنصبة «الوضع» مثل جالس. والملكة مثل اللبس والانتعال والتسلح للإنسان، واللحاء للشجر. ويفعل مثل القطع. وينفعل مثل مقطوع. )وما تم ذكره يطلق على كل الموجودات، وتجد بسطا لهذا في المقولات لأرسطو، وشروحات ذلك من أهل العلم .
واعلم أن الكلام ثلاثة أنواع هي الأسماء وهي الألفاظ الدالة على معان دون زمان كقولك عمر ومعاذ، والأفعال أو الكلمات وهي لفظة دالة على زمان كقولك عرف يعرف وضرب يضرب ، ثم الحروف أو الرباطات مثل قولك في وعلى ومن.وعلى من يتغيا العدالة أن يتعلم ما لا يسعه جهله من علم النحو ، لأنه من أهم المقادير التي تساعدك في اختيار ما هو عدالة .ثم إن لأهل العلم أساليب لمعرفة صدق الكلام وكذبه، ولا يتسع نطاق هذا المقال إلا للإشارة إلى لغة تسمى "ميتا" وهي لغة خطاب لا لغة لسان فتعلمها يا موفق لأن العدالة لكي تتقرر فإنه لابد مع صحة الوقائع من صدق الخبر .ثم عليك بتعلم القياس لكي يستقيم كلامك وتصونه من التناقض ، ولكي تدرك الصواب من الخطأ، ولتصل للنتيجة بالتمهيد السليم ، فإن المقدمات متى صحت ؛ صحت النتائج إذا قصدت الصواب.وكل ما تقدم لمحة يسيرة، لعلك منها تنطلق إلى أوسع منها، وهي مختصرة جدا كأنها نقط للتذكير، وهي زاد لرحلتك يا موفق للترقي الدائم نحو الله والدار الآخرة، فإن العدالة مع كونها غاية، فهي أيضا وسيلة عظيمة لرضى الله سبحانه وتعالى، ولأنك تعلم أن العدالة لا تكون من الهوى وميل النفس بدون دليل، وإنما تدرك من معرفة طرق استنباط الدليل وتقريره، والبناء على القواعد التي ينبغي لك فقهها.واعلم أنك بهذا الطريق متى أخلصت وتابعت؛ تتجرد من عالم الشرور، لتترقى في عالم الخير والبر والوصول.وقبل كل شيء ومعه وبعده؛ فإن تعلم الشريعة وفهم الفقه الذي أرساه علماء الإسلام هو الأساس والركن الذي لأجله نقول الذي قرأته كله.وما في الدنيا بكل ما تراه مثل كتاب الله في مساعدتك على اختيار ما هو أقوم { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...} ثم حديث نبينا عليه الصلاة والسلام .وأسأل الله لي ولك التوفيق وحسن الختام.وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.