07 Feb
07Feb


مقدمة
الإنسان دائما يعيش في جماعة[1] وهو بطبيعة الحال اجتماعي بطبعه[2] وعليه فإن اختلاط الإنسان بغيره من بني الإنسان يشكل الجماعة . ولكل إنسان في هذه الجماعة مصالحه التي قد تتفق أو تتعارض مع غيره. ومعلوم أن سعادة المجتمع ورفاهيته تتوقف إلى حد كبير على تحقيق الانسجام بين مصالح الأفراد ومصلحة الجماعة[3]. وحيث يربط الإنسان بغيره روابط إنسانية وأسرية؛ توجد أيضا علاقات العمل أو المهنة ، هذا إضافة إلى المعاملات المالية والتجارية التي تزدهر بها حياة الجماعة الاقتصادية[4] . وحال أدركنا أن الإنسان وهو يتعامل مع غيره بشتى أنواع التعاملات هو في الحقيقة حريص على إشباع حاجاته وغرائزه ، ومع ذلك فالإنسان أناني بطبعه[5].. فعليه لابد وأن يكون هناك تضارب في عموم المصالح وخصوصها . وفي بداية الأمر فإن القانون تمثل في بعض التقاليد والعادات التي كانت منطلقا لضبط توازن الحياة وكانت ثمة ضمانات لتوقيع الجزاء على المخالف يفرضها الحال من خلال رب الأسرة أو العشيرة . ولم تكن ثمة صورة واضحة من خلالها نعرض لغاية القانون في ذلك الوقت . لكن يمكننا القول أن الأمر يعود للفلسفة التي تسود المجتمع . وأيا ما كان الأمر فنحن أمام نوعين من الفلسفة التي في إطارها تتضح معالم كل نوع أو كل نزعة . فغاية القانون يتجاذب كل من أنصار الفلسفة الفردية وأصحاب الأفكار أو الفلسفة الاشتراكية الحديث عنها كعنصر واقعي يفرضه الحق. على أنه ظهر فريق ثالث يدعى الفريق المختلط أو الوسطي , والبعض ضمّن هذا الأخير رأي الفقه الإسلامي وبعض آخر يفرد الفقه الإسلامي كفريق رابع .
وعلى ذلك فسنعرض لكل فريق موقفه من غاية القانون ثم نبين رأينا, وفي واقع الأمر فإن كل من الفريقين الفردي والجماعي"الاشتراكي" بصورته الأخيرة والنهائية ما هو إلا ردة فعل لظروف طويلة فكانت حلولا أكثر منها فكرة جديدة , وبالتالي صارت النظرة إلى غاية القانون على النحو الذي سنعرضه إن شاء الله . لكن قبل أن نشرع في الآراء نود أن نلمح إلى التطور عبر التاريخ في غاية القانون . ويمكننا القول في هذا أن فكرة تطور القانون نحو تغليب مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة وفكرة تغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد تتناوبان الغلبة في المجتمع الإنساني , على أن بعض المجتمعات حاولت الجمع بين الاتجاهين[6]أو أخذت اتجاها آخر كما سنعرض .
المطلب الأول / غاية القانون في ظل الفلسفة الفردية : يقوم المذهب الفردي على فكرة أساسية مؤداها أن الفرد محور الحياة الاجتماعية وهدفها[7] وأنه يمكن التضحية بمصلحة الجماعة في سبيل المصلحة الفردية وأن الفرد لا يستمد وجوده من المجتمع, بل المجتمع يقوم بفضل الفرد. وعلى هذا وغيره فإن كل القيم لابد أن يكون محورها الفرد. فكل قيمة تعلي من شأن الفرد هي لدى هذا المذهب صحيحة وسليمة, وكل قيمة تنال من الفرد فهي مرفوضة .تذكر هذه الفلسفة أيضا أن الفرد سبق وجود المجتمع وأن الناس كانوا يعشون منعزلين قبل قيام الجماعة ولم تكن حياتهم فوضى وإنما كانوا يعيشون في أمن وسلام، ولكن حياتهم في بعض الظروف، كان يعتورها الغموض، وينقصها عدم وجود القاضي المنصف، ولذا قرروا الخروج من حياة العزلة إلى الحياة الاجتماعية ولكن الذي أصبح يلي شؤون الجماعة لا بد من أن يرعى حقوق الأفراد لأنها سابقة على وجوده[8] . كما نشأت هذه الفلسفة في إنجلترا فإنها أيضا انتقلت إلى فرنسا[9] . كما أثرت هذه النزعة على الوثائق الدستورية التي صدرت في أمريكا الشمالية وذلك بمناسبة استقلال المستعمرات الثلاث عشرة 1776 وقد تضمنت ديباجة، جاء فيها: «أن الناس خلقوا سواسية، متمتعين بحقوق خالدة، لا تنتزع، ولقد نشأت الحكومات لصون هذه الحريات». والأشخاص الذين قاموا بالثورة الفرنسية كان لهم الفضل في وضع أفكار فلاسفة المذهب الفردي موضع التطبيق. فالوثيقة التي أقرتها الجمعية الوطنية1789 واعتبرت جزءا من الدستور الصادر 1791 جاء فيها: «أن هدف كل جماعة سياسية هو صيانة حقوق الإنسان الطبيعية الخالدة وان صيانة حقوق الإنسان والموطن تقتضي قيام سلطة عامة ولذا فان هذه السلطة تقوم لصالح الجميع لا لصالح من يعهد إليهم بها»، والحرية هي فعل كل ما لا يضر بالغير وليست هناك قيود تنال حرية الإفراد إلا تلك التي تكفل لباقي الأعضاء في الجماعة التمتع بنفس الحقوق، فالحرية هي الأساس والتقييد ما هو إلا استثناء، ولذا كان القانون هو علم الحرية، هدفه صيانتها، ولم يبح المذهب للدولة بأن تتدخل إلا للتمثيل الخارجي والأمن الداخلي، وصيانة العدالة وقد شبه بعضهم الدولة بشرطي المرور الذي ينظم السير فهو يوقف البعض ليمر البعض الأخر ولكن عليه أن يحافظ على حقوق المارين جميعا. ولكن النزعة الفردية ليست حديثة عهد بالوجود بل هي قديمة.حيث تعود إلى أيام الرومان فالقانون عندهم كان فردي النزعة ولكن الذي يميز القرن الثامن عشر والتاسع عشر هو الإغراق في الفردية حتى أتت وثيقة استقلال المستعمرات الانجليزية ودستور الثروة الفرنسية معبرة عن هذه النزعة وذلك بتسويد الحق على القانون واعتبار الحق سابقا في وجوده على القانون بل إن هدف القانون هو حماية الحقوق ورعايتها. وعلى كلٍ فإن النزعة الفردية تجلت في الميدان السياسي والقانوني والاقتصادي، ففي الميدان السياسي، ساد مبدأ حرية الإنسان وتقديمه والإيمان بأن استقلاله هو الهدف، وأنه مطلق الحرية في تقرير مصيره بنفسه، وساد الاعتقاد بأن القانون هو علم الحيرة، وإنها هي الهدف الذي ينبغي أن يقصده كل نظام قانوني عادل. وفي الميدان القانوني تجلى في ازدهار مبدأ سلطان الإرادة وحريتها، وأن رضا المتعاقدين شريعتهما وأنه لا يمكن لأي من المتعاقدين أن يقرر بإرادته المنفردة إنهاء العقد مهما كانت الظروف التي تبعث هذا الإنهاء، لأنه يكفي أن تكون إرادته اتجهت إلى أحداث اثر قانوني وهي تامة التنور، وأمام مبدأ سلطان الإرادة تضاءلت إرادة المشرع وأصبحت إرادة الفرد تعلو على إرادة الدولة بل إن النظم القانونية أصبح أساسها عند أنصار هذا المذهب الإرادة، والإرادة الفردية وحدها، فالملكية عندهم هي المظهر المادي لمبدأ سلطان الإرادة والميراث ما هو إلا وصية مفترضة، والمجرم الذي ينفذ فيه حكم الإعدام ارتضى هذا الحكم عن طواعية، لأنه قبل هذا القانون سلفا لان القوانين كلها وليدة إرادة الشعب. وفي الميدان الاقتصادي اعتقدت أن الحرية الشخصية هي الهدف وأن المنافسة هي الأساس وأن الفرد لا يمكن له أن يعمل إلا بوازع ينبعث من أعماقه وأن غريزة حب التملك غريزة أصيلة في الإنسان وأنه لا ضرر من المنافسة على الصالح العام إذ أن مجموع المصالح الفردية يكون الصالح العام. هذه هي فلسفة المذهب الفردي حرية سياسية وتسويد للحق على القانون ومنافسة في الاقتصاد. مما تقدم وغيره فإنه بإمكاننا وضع الخصائص للمذهب الفردي على أساس من الأهمية حيث سنسلط الضوء على الناحية القانونية وتبعا لها الناحية الاقتصادية. الناحية القانونية لأنها المحور الذي تطوف حوله دراستنا وبحثنا, والناحية الاقتصادية للالتصاق الشديد بالجانب القانوني. ففي الحقيقة يكون الوضع الاقتصادي ثمرة قواعد قانونية هي الأخرى تأثرت أو انبثقت من الوضع الاقتصادي .الفرع الأول/ تلخيص خصائص المذهب الفردي:
الدولة الحارسة؛ ومؤدى هذا أن تنحصر وظيفة القانون في محاولة التوفيق بين المصالح الفردية ورفع التضارب بينها. وتقتصر وظيفة الدولة في حفظ الأمن في الداخل والخارج ولا تتدخل في النشاط الاقتصادي ولا تلتزم بأداء خدمات اجتماعية للأفراد [10]
العقود؛ القانون في ظل المذهب الفردي يعتبر أداة صماء ينظر إلى الأفراد جميعا على أنهم سواسية, ومن ثم لا يتدخل فيما يتفق عليه الأفراد وتنصرف إليه إرادتهم, ولا يعتد بما قد يكون بينهم من فوارق طبيعية أو اقتصادية أو اجتماعية. فهو يسعى إلى تحقيق العدل المطلق القائم على المساواة بين الأفراد[11] .
الملكية الخاصة؛ مصونة لا تمس وهي مطلقة فيما تخول لصاحبها من سلطات . ولا يجوز للمشرع تقييد سلطات المالك على ملكه إلا في أضيق الحدود, ولا يسوغ نزع الملكية ولو للمصلحة العامة.

الحرية والمساواة؛ اعتبرت هي القانون والهدف منه وعليه إن خالف القانون هذه القيم فيجب تغييره والخروج عليه .

في الجانب الاقتصادي؛ فالسوق حر وتوجد حرية التملك وحرية اتخاذ القرار للأفراد. كما يقوم نظام السوق عن طريق تفاعل العرض والطلب, ويقتصر دور الدولة على ضمان قيام هذا النظام بوظائفه في جو من الاستقرار الاقتصادي المنشود[12] . وعليه فنشأ نظام حرية الأسعار وإطلاق هذه الحرية وفق متطلبات العرض والطلب . ويطلق على المذهب الفردي في مجال النشاط الاقتصادي ((النظام الرأسمالي))[13] .
الفرع الثاني/ تقديــر النزعــة الفرديــة: أدى المذهب الفردي إلى الاعتراف للإنسان بكرامته كإنسان والإيمان بأنه مستقل عن غيره من الكائنات البشرية وبأن له حقوقا يجب صيانتها وكان له أكبر الأثر في تحرير الفرد من استبداد الحكام والاعتراف بمساواة الناس وهذا معناه القضاء على النظام الطبيعي الذي كان يشكل تهديدا خطيرا لحريات الأفراد ولكنه لا يخلو من عيوب منها: - إن المذهب الفردي قام على أساس نظرية العقد الاجتماعي وهي نظرية خيالية إذ الإنسان لم يعش قط منفردا وإنما عاش في الجماعة وبالجماعة ولم يثبت لنا التاريخ أن الإنسان كان يعيش منفردا ثم قرر أن يجتمع بغيره فيكون المجتمع، والنتيجة لهذا فإنه لا يمكن تصور أن هناك حقوقا يكسبها الفرد وهي سابقة على وجود الجماعة، والجماعة لم توجد إلا لحمايتها ورعايتها إذ الحقوق كلها اجتماعية ولا يمكن أن نتصور إلا أن الإنسان يعيش في الجماعة . وإذا كانت الحقوق كاملها لا توجد إلا في جماعة وأنه ليس هناك حق إذا لم تعترف به الجماعة كان معنى هذا أن الحق ليس سابقا في وجوده القانوني بل أن القانون هو السابق في وجوده على الحق بدليل أن كل حق لا بد من أن يحميه القانون .

- إن المذهب الفردي يؤدي إلى سيادة الأنانية ويعلم الإنسان أن يطالب ويتمتع بحقوقه دون أن يتحمل واجبات، وإعلان حقوق الإنسان هو نفسه تحدث عن الحقوق واغفل الواجبات[14]. - أدى المذهب إلى تكيس الثروات وتجمعها في أيد قلة قليلة من البشر ونزول الفئة الوسطى من الناس إلى طبقة العمال وقامت الشركات الكبرى التي احتكرت الإنتاج وتدخلت كثيرا في السياسة لحساب الرأسمالية وكثر العمال وتضخم عددهم وتجمعوا في المصانع وساءت حالهم لتفاهة الأجور التي كانوا يتقاضونها والبطالة التي كانت تسيطر عليهم خصوصا في ظروف الأزمات الدورية وازدادت حالتهم سواء نتيجة إهمال المشرع لهم وإيمانه بمبدأ سلطان الإرادة وشعور العمال بالظلم أدى بهم إلى أن يتجمعوا ويكونوا طبقة خاصة بهم هدفها حماية صالح الأمة كلها لا حفنة كما يريد ذلك المذهب الفردي وان المذهب الفردي يجب أن يزول. - آمن المذهب بأن مجموع المصالح الفردية يكوّن الصالح العام وهذا خطأ إذ الناس يجرون وراء مصالحهم ولا يهمهم صالح الجماعة بل قد يحققون مصالحهم على حساب مصلحة الجماعة والثابت علميا في المذهب الفردي أن مجموع المصالح الفردية لا تكون الصالح العام إذ أن مجموع المصالح الفردية يستحيل في النهاية إلى تحقيق مصالح قليلة من الأفراد والسبب في ذلك هو أنه يعتقد أن الإفراد متساوون في المراكز القانونية وبدا يخطئ خطأ فادحا إذ ينسى الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية التي توجد بين الأفراد. والخطأ الذي وقع فيه هذا المذهب في الناحية الاقتصادية هو نفس الخطأ الذي وقع فيه من الناحية القانونية ذلك أن مبدأ سلطان الإرادة وحريتها يقضي بالمساواة المطلقة فيما بين المتعاقدين في حين أن هناك فوارق كثيرة يجب اعتبارها. وهكذا فان مساوئ المذهب الفردي كانت تحمل بين طياتها قيام مذهب جديد هو المذهب الاجتماعي الذي يعتبر رد فعل عنيف المذهب الفردي. المطلب الثاني/ غاية القانون في ظل الفلسفة أو المذهب الجماعي "الاشتراكي" :
هذاالمذهب مبني على أن الفرد كائن اجتماعي أي عنصر من عناصر المجتمع وأن المجتمع ليس جمعا من الأفراد المحتفظين بذواتهم بل هو وحدة متجانسة ومتضامنة بحيث تذوب شخصية الفرد داخل المجتمع[15]. فالعبرة بتحقيق مصلحة الجماعة قبل كل شيء, ويجب تسخير الفرد لخدمة الصالح العام [16] . ويراعي هذا المذهب حقيقة الإنسان في أنه كائن اجتماعي لا يعيش إلا في الجماعة ولا يرقى ولا يسعد إلا بها. وأن سعادة المجتمع ورفاهيته هي السبب في سعادة الأفراد ورفاهيتهم . وهذا المذهب أصبح يبصر بالفوارق الكثيرة الموجودة بين الأفراد وان حرية المتعاقدين وسلطان الإرادة ليس كفيلا بتحقيق العدالة بين الإفراد، واخذ بمبدأ تدخل الدولة لحماية الظرف الضعيف في العقد وبالأخص عقود الإذعان وولدت نظرية التعسف في استعمال الحق ونظرية الظروف الطارئة وتدخلت الدولة في عقود العمل وأقامت نظرية الغبن وغالت بعض المذاهب الاجتماعية إلى حد القضاء على الملكية الفردية بصفة مبدئية ونقلها إلى الدولة فتصبح الدولة هي المنتجة الوحيدة وهي رب المصنع وصاحب المتجر تستخدم الأفراد حسب حاجياتهم فهم يعملون في مصانعها بعد أن قضوا طفولتهم في دورها ومدارسها ونالوا التربية والتوجيه الذي تريده وعلى هذا فهم يولدون ويحيون ويموتون ولا يعرفون خلال كل هذه المراحل غير وجود الدولة، وظهر هذا الغلو في ألمانيا الهتليرية وايطاليا في عهد موسوليني وروسيا السوفياتية. والملاحظ أن النزعة الجماعية ليست حديثة عهد بالوجود بل هي قديمة جدا فهناك كثير من القبائل لم تكن تعترف بأي حق لإفرادها وإنما كانت ترى أن الفرد يجب أن يغنى في الجماعة. على أن المذهب الاشتراكي ظهر نتيجة لفلسفة المدرسة التاريخية وفلسفة المذاهب الواقعية _مثل مذهب ديجي_ في القرن التاسع عشر, وازدادت أهميته في القرن العشرين بعد قيام الاتحاد السوفيتي[17] . وكثير من القانونيين يرون أن المذهب الاشتراكي في حقيقته ردة فعل للمذهب الفردي, وبالتالي ظهر فيه التطرف وبرز . وفي الغالب فهم فلسفة أحد المذهبين الفردي أو الاشتراكي هو فهم للآخر حيث أن غالب مافي المذهبين متضاد ومتعاكس .الفرع الأول/ تلخيص خصائص المذهب الاشتراكي :
الدولة المتدخلة؛ تعمل الدولة على فكرة التضامن الاجتماعي بين الأفراد والتدخل في أوجه النشاط المختلفة. والأفراد يتحملون قدرا من الأعباء التي تفرضها الحياة الاجتماعية المشتركة. واتساع دائرة القانون نتيجة لتدخل الدولة في حياة المجتمع وإشرافها على مرافقه العامة.

العقود؛ تتحدد وظيفة القانون في تحقيق مصلحة الجماعة, فبفرض القانون رقابته على مضمون العقد وشروطه. والقانون يفرض بعض القيود على الأفراد لتحقيق بعض المصالح الاجتماعية وللقاضي سلطة واسعة في تعديل عقود الإذعان وفرض الكثير من الشروط في عقد العمل لحماية العامل .

الملكية؛ ليست حقا خاصا مطلقا بل لها وظيفة اقتصادية واجتماعية ويمكن تأميمها ونزعها للمصلحة العامة .

وفي الجانب الاإقتصادي فتتولى الدولة وضع السياسات الاقتصادية والاختيارات البديلة للاقتصاد ككل. وذلك بسبب تملك الدولة لعناصر الإنتاج الرئيسية في الصناعة والزراعة والخدمات, أو بعبارة أخرى يقوم هذا النظام على احتكار الدولة لكافة أوجه النشاط الاقتصادي وبالتالي إلغاء الملكية الفردية وإلغاء الإرث ومن ثم القضاء التام على المنافسة الحرة بين الأفراد[18] .
الفرع الثاني/ تقدير المذهب الجماعي "الاشتراكي : المذهب الإشتراكي لم يخلو من العيوب المتمثلة في تطرفه في إهدار الفرد وحقوقه لمصلحة الجماعة، مما أدى إلى طغيان سلطان الدولة والحكام على نحو يعدم حرية الفرد، وازداد تدخل الدولة في كثير من المجالات مما أدى إلى تقلص دور الفرد وشل حركته وعرقلة نشاطه، وكانت النتيجة هي زيادة التعقيدات الإدارية والكساد الإجتماعي والإقتصادي، واستفحال دور القانون العام على حساب القانون الخاص، حيث تدخلت الدولة في كافة المعاملات والعلاقات القانونية بصفتها سلطة عامة. يضاف إلى ذلك أن القضاء على الملكية الفردية أمر يتعارض و الطبيعة البشرية المجبول عليها الإنسان و منها حب التملك. كذلك فهذا المذهب لم يؤدّ إلى القضاء على الاستغلال من خلال القضاء على الفئة القليلة التي تتركز بيدها الثروة و تستغل العمال، و إنما أحل محلها فقط طبقة أخرى من الطبقة الحاكمة و كبار الموظفين الذين يتولون إدارة وسائل الإنتاج في المجتمع الاشتراكي. يضاف إلى ذلك أنّ تدخل الدولة في مجال الأنشطة الفردية أدى إلى الكثير من الانتهاك لحقوق و حريات الأفراد…الخ. ولذلك و على الرغم من النجاح الذي حققه هذا المذهب مرحلياً في بعض الدول التي تبنته و على رأسها الاتحاد السوفيتي السابق، فإن المذهب الاشتراكي لاقى تراجعاً كبيراً منذ نهاية الثمانينات من القرن العشرين، بعد الفشل الذي لاقاه على الصعيدين الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي طبعاً، مما أدى إلى انهيار أغلب الدول التي تبنته كلياً، و إلى تخلي الكثير من الأحزاب السياسية في العديد من الدول التي تستند إلى المبادئ الفلسفية للمذهب الاشتراكي عن أغلب هذه المبادئ : ففي دول أوربا الغربية نجد مثلاً في بريطانيا أن حزب العمال تخلى عن مبادئه الرافضة للخصخصة، و كذلك الأمر بالنسبة للحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يمكن الاستنتاج من برنامجه الانتخابي في الانتخابات التشريعية الأخيرة (حزيران 1997، وحزيران 2001) أنّه قد تحول إلى حزب اجتماعي كما هو الحال بالنسبة لحزب العمال البريطاني. المطلب الثالث/ غاية القانون في ظل المذهب المختلط : يعتبر المذهب المختلط، مذهباً وسطاً بين المذهبين الفردي و الاشتراكي. فأنصار هذا المذهب الخليط لا يقولون، كما يرى أنصار المذهب الفردي بتقييد دور الدولة ضمن الوظائف الأساسية بجعلها مجرد دولة حارسة، كذلك لا يقولون، كما يرى أنصار المذهب الاشتراكي، بإطلاق العنان للدولة للتدخل في جميع المجالات. فهم يقرون بالسماح للدولة بالتدخل بقدر معين لتحقيق مصلحة الجماعة و تحقيق غاياتها، مع ترك الحرية للأفراد للتمتع بحقوقهم و منها حق الملكية، في حدود القانون. فالدولة بحسب أنصار هذا المذهب لا تقف موقفاً سلبياً تجاه حقوق و حريات الأفراد، و لكن لا تصادر في الوقت نفسه هذه الحقوق و الحريات . وقد ساد هذا المذهب معظم دول العالم، و خاصةً دول أوربا الغربية، ما بين الحربين و إلى يومنا هذا، فالدولة أصبح لها حق التدخل الإيجابي في جميع أوجه النشاط، سواء في المجال الاقتصادي، أم في مجال التعليم و الصحة العامة. حيث ظهر مفهوم الدولة الموجهة، التي توجه بصورة مباشرة أو غير مباشرة جميع أوجه النشاط الاقتصادي و الاجتماعي (إشراف، مراقبة، تخطيط، مساعدات)، أي بوضع الضوابط القانونية لهذا النشاط.
وظهر مفهوم دولة العناية الإلهية، التي تعتبر مسؤولة عن تحقيق التقدم الاقتصادي و الاجتماعي، وخاصةً ما يتعلق بمجال الصحة و بقية التأمينات الاجتماعية. و أصبح يعبر عن هذا المذهب اقتصادياً بسياسة التدخل عند الحاجة أو متى اقتضت الضرورة. وفي الواقع اكتسح هذا المذهب أغلب دول العالم، و خاصةً دول أوربا الغربية، و على وجه التحديد الدول الاسكندنافية، حيث تلعب الدولة الدور الأساسي في المجال الاجتماعي و خصوصاً في قطاعي الصحة و التعليم، و يعتبر الضمان الاجتماعي أحد أهم خصائص هذه الدول[19] .
المطلب الرابع / الاتجاه الإسلامي : الفرد و الجماعة هما الأساس الفلسفي لتحديد غاية القانون في كل المذاهب؛ فالإسلام يقف على مسافة واحدة في نظرته للفرد و المجتمع. فالفرد، الذي هو طبعاً أسبق من الجماعة في الوجود، مكرم و يتمتع بذاته بقيمة رفيعة أمام الله و الجماعة و السلطة. و هو يتمتع بالحرية الملازمة لمسؤوليته، فالحرية هي الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الفردية في الإسلام. فالفرد إذاً حسب الفقه الإسلامي هو كيان قائم بذاته له قيمته و حريته و حقوقه. ولكن ليس وحده في الوجود فهناك أيضاً المجتمع الذي له قيمته و حقوقه الخاصة به. و قيمة الفرد و حقوقه و قيمة المجتمع وحقوقه محددة بموجب الشريعة الإسلامية التي لم يضعها لا الفرد ولا المجتمع وإنما الله خالق الفرد والمجتمع . فيقوم هذا الاتجاه على أن يمنح الحرية الفردية ويراعي مصالح الفرد, كما أنه يساوي الإنسانية في أدق معانيها على أنه لا يترك ذلك فوضى, فللمجتمع حسابه وللإنسانية اعتبارها وللأهداف العليا للدين قيمتها. لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية وأيضا التبعة الجماعية . على أن هناك تكافل بين الفرد والجماعة وبين الجماعة والفرد يوجب كل منهما تبعات ويرتب لكل منهما حقوقاً . والإسلام يبلغ هذا الجانب حد التوحيد بين المصلحتين وحد الجزاء والعقاب على تقصير أيهما في النهوض بتبعاته في شتى مناحي الحياة .

والفرد مكلف أن يرعى مصالح الجماعة كأنه حارس لها, موكل بها. والحياة سفينة في خضم, والراكبون فيها جميعا مسؤولون عن سلامتها, وليس لأحد أن يخرق موضعه منها باسم الحرية الفردية (مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا))[20] . وهو تصوير بديع لتشابك المصالح وتوحدها, بإزاء التفكير الفردي الذي يأخذ بظاهر المعاني النظرية ولا يفكر في آثار الوقائع العملية, ورسم دقيق لواجب الفرد و واجب الجماعة في مثل هذه الأحوال. وليس هناك فرد معفي من رعاية المصالح العامة فكل فرد راع ورعية في المجتمع (كلكم راع ومسئول عن رعيته)[21] . كما أن الأمة مسؤولة عن حماية الأفراد ورعاية مصالحهم وصيانتها, خصوصا الضعفاء }وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا{[22] . وفي الحديث ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ))[23] . وهي مسؤولية الأمة والجماعة عن الفرد الفقير أن ترزقه بما فيه الكفاية, فتتقاضى أموال الزكاة وتنفقها في مصارفها؛ فإذا لم تكف فرضت على القادرين بقدر ما يسد عوز المحتاج. فإذا بات فرد واحد جائع فالجماعة كلها تبت آثمة } كلا بل تكرمون اليتيم*ولا تحاضون على طعام المسكين{ الآيات[24] . وفي الحديث ((أيما أهل عرصة أمسوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله))[25] . فالإسلام يدع للفرد حريته كاملة في الحدود التي لا تؤذيه ولا تأخذعلى الجماعة الطريق؛ ويجعل للجماعة حقوقها, ويكفلها من التبعات في الوقت ذاته كفاء هذه الحقوق لتسير الحياة في طريقها السوي القويم وتصل إلى أهدافها العليا التي يخدمها الفرد وتخدمها الجماعة سواء[26] . وحاصل القول؛ أن الشريعة الإسلامية قد اتخذت خطى منطقية وأكثر جاذبية حيال بيان غاية القانون؛ حيث قررت أنها إجراء توازن بين المصلحة الخاصة (مصلحة الفرد) والمصلحة العامة (مصلحة الجماعة) وذلك عبر عدة وسائل وطرق مردها في القواعد الفقهية[27] . غير أن هذا لربما يغير مجرى البحث إلى البحث في القواعد الفقهية, لذا اكتفينا باستنتاج الاتجاه الإسلامي في هذا الشأن من القواعد الفقهية ومن غيرها.
فرع / تلخيصا لبعض خصائص الاتجاه الإسلامي :
الدولة؛ دور الدولة لأصل أن تقوم الدولة بأعمالها السيادية، التي وكلها بها المجتمع، فهي منوطة بتحقيق الأمن الداخلي والدفاع عن الأوطان وإقامة العدل، والتمثيل مع الجهات الخارجية، وما أضيف فيما بعد لدور الدولة في ضوء التجربة الإنسانية. وفي سبيل قيام الدولة بالدور المنوط بها تمتلك من المرافق العامة ما يسهل عليها القيام بدورها، من طرق وموانئ ومطارات ومؤسسات تعليمية وصحية وغيرها من المرافق، وليس ذلك بغرض الربح، بل تقدم خدماتها لمواطنيها بغية التيسير عليهم في نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي. والأصل في ممارسة النشاط الإنتاجي أن يقوم به القطاع الخاص، ولا تتدخل الدولة إلا إذا عجز الأفراد عن الوفاء باحتياجات المجتمع، أو قصروا في ذلك، أو مارسوا دورهم بما يؤدي إلى وجود احتكار. ومن هنا يرى البعض أن دور الدولة في الإسلام في مجال الإنتاج هو فرض كفاية. وهو مرتبط وجودا وعدما بوجود مصلحة عامة تقتضيها الظروف السائدة بالمجتمع.


كما أن سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية العامة -مثل النفط والمحاجر والمعادن في باطن الأرض- هو مسؤوليتها، وعليها أن تدير هذه الموارد بالشكل الذي يحقق عدالة التوزيع، ويحافظ على حقوق الأجيال القادمة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار"، وأن يكون تخصيص الموارد من قبل الدولة بما لا يؤدي إلى تهميش القطاع الخاص، أو يقلل من فرص منافسته في السوق[28].

الملكية؛ اعترف الإسلام بنظام الملكية ولكنه نظمه على أسس وقواعد واضحة وأباح كسبها بسبب طيب وأنكرها إن كان السبب خبيثا. وحرية تملك الأفراد لوسائل الإنتاج مكفولة ومصونة بالشرع وهي الأصل وتدخل الدولة هو الاستثناء ، وهو تدخل محدود لضرورات ومصالح شرعية تمنع إلحاق الضرر بباقي أفراد المجتمع أو تصحيح لملكية تم حيازتها أو التصرف فيها بطريق غير شرعي .
فالملكية الخاصة مصونة ولكنها ليست مطلقة ، بل مقيدة من حيث اكتسابها ومن حيث استعمالها ، إذ المالك الحقيقي للمال في الإسلام هو الله تعالى والبشر مستخلفون فيه وفقاً لمراد وتوجيهات المالك الحقيقي . والإسلام يقر الملكية الخاصة والعامة في وقت واحد وهما مكملان لبعضهما ، وكلاهما ليس مطلقاً بل هو مقيد بالصالح العام.العقود؛ الأصل فيها الحل والإباحة ومن العقود المباحة عقد الشركة والمضاربة والإيجار ويحرم ما أدى إلى غرر أو منازعات وما اشتمل على ربا[29] بغض النظر عما إذا مارست الدولة النشاط الإنتاجي أم تركته للأفراد، فالدولة مسؤولة عن منع الاحتكار وتنظيم المنافسة، ومنع الغش والتدليس، وما يحافظ على أرواح الناس وأبدانهم. فالسوق كان ثاني المؤسسات التي حظيت باهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المسجد في إقامة دولة الإسلام بالمدينة. وقد رخص الإسلام لولي الأمر أن يتدخل ليجبر المحتكر على البيع بثمن المثل، دون بخس ولا وكس. كما رخص الإسلام لولي الأمر على سبيل الاستثناء التسعير لتعبر السوق عن الأداء الصحيح للنشاط الاقتصادي[30].
وقد مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم دور الدولة في اكتشاف الغش بالأسواق ومنع صاحبه من التواجد بالسوق، من خلال الحادثة الواردة لبائع القمح الذي بلله بالماء ليزيد في وزنه. وثمة تجارب عصرية يستفاد منها في إطار تنظيم المنافسة ومنع الاحتكار، وكذلك التشريعات الخاصة بمكافحة الفساد.

المطلب الخامس/
الخاتمة :
ونقول ختاما؛ أن غاية القانون ترتبط بطبيعة المجتمع الذي يطبق فيه وهل هومجتمع تسوده النزعة الفردية أم النزعة الجماعية أم المختلطة أم الإسلامية وذلك تبعا للفلسفة التي تسود المجتمع في التوفيق بين مصالح الأفراد ومصلحة الجماعة .
فالمذهب الفردي يجعل من المصلحة الفردية الغاية التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها فتأتي النظم القانونية مراعية لهذه الغاية, وبمراعاة المصلحة الفردية تتحقق مصلحة الجماعة كما هو السائد في أمريكا وأوربا الغربية.
والمذهب الاجماعي أو الاشتراكي يجعل مصلحة الجماعة هي الغاية التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها فتأتي النظم القانونية مراعية لهذه الغاية وبمراعاة المصلحة الجماعية تتحقق المصلحة الفردية كما كان سائدا في أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي وقد ذكرنا بالتفصيل موقف الاتجاه الإسلامي وهو السائد في معظم البلدان العربية والإسلامية.
هذا والله أسأل أن يوفقنا لما فيه خير وأن يلهمنا رشدنا ويكرمنا ويوفقنا

[1] صوفي أبوطالب , تاريخ النظم القانونية والاجتماعية   [2] جاستون بوتول , تاريخ علم الاجتماع   [3] صوفي أبوطالب, تاريخ النظم القانونية والاجتماعيىة   [4] د.محمد حسن , المدخل إلى إلى القاعدة القانونية .   [5] د.متولي عبدالمؤمن محمد المرسي, الوجيز في تاريخ القانون   [6]  د.صوفي أبو طالب, تاريخ النظم القانونية والاجتماعية   [7] د.محمد حسين منصور , المدخل إلى القاعدة القانونية   [8] جان جاك روسو, العقد الاجتماعي   [9] انظر مونتيكو, روح القوانين    [10] د.صوفي أبو طالب, تاريخ النظم القانونية والاجتماعية   [11] د.فايز ابراهيم الحبيب, مبادئ الاقتصاد الكلي

تمت يوليو 2016

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.